فصل: سورة الغاشية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ‏(‏6‏)‏ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ‏(‏7‏)‏‏}‏

قد عرفت أن الأمر بالتسبيح في قوله‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏ بشارة إجمالية للنبيء صلى الله عليه وسلم بخير يحصل له، فهذا موقعُ البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يُقرئه فيبلِّغُه كما أوحي إليه ويحفظه من التفلت عليه، ولهذا تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن البشارة تنشئ في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ترقباً لوعد بخير يأتيه فبشره بأنه سيزيده من الوحي، مع ما فرَّع على قوله‏:‏ ‏{‏سنقرئك‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فلا تنسى‏}‏‏.‏

وإذ قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولاً‏.‏ وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس‏:‏ «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شِدة إذا نزل جبريل، وكان ممَّا يحرك شفتيْه ولسانَه، يريد أن يحفظه ويخشى أن يتفلت عليه فقيل له‏:‏ ‏{‏لا تحرّك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 16، 17‏]‏، إنّ علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه‏:‏ ‏{‏فإذا قرأناه فاتبع قرآنه‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ يقول‏:‏ إذا أُنزل عليك فاستمع، قال‏:‏ فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله» وسورة القيامة التي منها ‏{‏لا تحرك به لسانك‏}‏ نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله‏:‏ سنقرئك فلا تنسى‏}‏ وعد من الله بعَونه على حفظ جميع ما يُوحى إليه‏.‏

وإنما ابتدئ بقوله‏:‏ ‏{‏سنقرئك‏}‏ تمهيداً للمقصود الذي هو‏:‏ ‏{‏فلا تنسى‏}‏ وإدماجاً للإِعلام بأن القرآن في تزايد مستمر، فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أُوحي إليه على حين قِلَّته فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده‏.‏

والسين علامة على استقبال مدخولها، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصةً إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذ قد كان قوله‏:‏ ‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏ إقراءً، فالسين دالة على أن الإِقراء يستمر ويتجدد‏.‏

والالتفات بضمير المتكلم المعظَّم لأن التكلّم أنسب بالإِقبال على المبشَّر‏.‏

وإسناد الإقراء إلى الله مجاز عقلي لأنه جاعل الكلام المقروء وآمر بإقرائه‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏فلا تنسى‏}‏ خبر مراد به الوعد والتكفل له بذلك‏.‏

والنسيان‏:‏ عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة أو زماناً طويلاً‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء اللَّه‏}‏ مفرّع من فعل ‏{‏تنسى‏}‏، و‏(‏ما‏)‏ موصولة هي المستثنى‏.‏ والتقدير‏:‏ إلا الذي شاء الله أن تنساه، فحذف مفعول فعل المشيئة جرياً على غالب استعماله في كلام العرب، وانظر ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء اللَّه لذهب بسمعهم وأبصارهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏20‏)‏‏.‏

والمقصود بهذا أن بعض القرآن ينساه النبي إذا شاء الله أن ينساه‏.‏ وذلك نوعان‏:‏

أحدهما‏}‏‏:‏ وهو أظهرهما أن الله إذا شاء نسخ تلاوة بعض ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يترك قراءَته فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن لا يقرأوه حتى ينساه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون‏.‏

وهذا مثل ما روي عن عمر أنه قال‏:‏ «كان فيما أنزل الشيخُ والشيخه إذا زنيا فارجموهما» قال عمر‏:‏ لقد قرأنَاها، وأنه كان فيما أنزل‏:‏ «لا تَرغبوا عن ءابائكم فإنَّ كفراً بكم أن ترغبوا عن ءابائكم»‏.‏ وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ننسها‏}‏ في قراءة من قرأ‏:‏ ‏{‏نُنْسِها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏106‏)‏‏.‏

النوع الثاني‏}‏‏:‏ ما يعرض نسيانه للنبيء صلى الله عليه وسلم نسياناً موقتاً كشأن عوارض الحافظة البشرية ثم يقيض الله له ما يذكره به‏.‏ ففي «صحيح البخاري» عن عائشة قالت‏:‏ «سمع النبيءُ صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ من الليل بالمسجد فقال‏:‏ يرحمه الله لقد أذكَرَنِي كذا وكذا آيةً أسقطتهن أو كنت أنسيتُها من سورة كذا وكذا، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة فسأله أبَيّ بن كعب أُنسِخَتْ‏؟‏ فقال‏:‏ «نسيتُها»‏.‏

وليس قوله‏:‏ ‏{‏فلا تنسى‏}‏ من الخبر المستعمل في النهي عن النسيان لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف، أمَّا إنه ليست ‏(‏لا‏)‏ فيه ناهية فظاهر ومن زعمه تعسف لتعليل كتابة الألف في آخره‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنه يعلم الجهر وما يخفى‏}‏ معترضة وهي تعليل لجملة‏:‏ ‏{‏فلا تنسى‏}‏ ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ فإن مضمون تلك الجملة ضمان الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن من النقص العارض‏.‏

ومناسبة الجهر وما يخفى أن ما يقرؤه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن هو من قبيل الجهر فالله يعلمه، وما ينساه فيسقطه من القرآن هو من قبيل الخفيّ فيعلم الله أنه اختفى في حافظته حين القراءة فلم يبرز إلى النطق به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ‏(‏8‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وجملة ‏{‏إنه يعلم الجهر وما يخفى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 7‏]‏ معترضة كما علمت‏.‏ وهذا العطف من عطف الأعم على الأخص في المآل وإن كان مفهوم الجملة السابقة مغايراً لمفهوم التيسير لأن مفهومها الحفظ والصيانة ومفهوم المعطوفة تيسير الخير له‏.‏

والتيسير‏:‏ جعل العمل يسيراً على عامله‏.‏

ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يُجعل يسيراً، أي غير صعب ويذكر مع المفعول الشيءُ المجعول الفعل يسيراً لأجله مجروراً باللام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسر لي أمري‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 26‏]‏‏.‏

واليُسْرى‏:‏ مؤنث الأيسر، وصيغة فُعلى تدل على قوة الوصف لأنها مؤنث أفْعَل‏.‏

والموصوف محذوف، وتأنيث الوصف مشعر بأن الموصوف المحذوف مما يجري في الكلام على اعتبار اسمِه مؤنثاً بأن يَكون مفرداً فيه علامَة تأنيث أو يكون جمعاً إذ المجموع تَعَامَل معاملة المؤنث‏.‏ فكان الوصف المؤنث منادياً على تقدير موصوف مناسب للتأنيث في لفظه، وسياقُ الكلام الذي قبله يهدي إلى أن يكون الموصوف المقدَّر معنَى الشريعة فإن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن مراعًى فيه وصفه العُنواني وهوَ أنه رسول فلا جرم أن يكون أول شؤونه هو ما أرسل به وهو الشريعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ونيسرك لليسرى‏}‏ إن حمل على ظاهر نظم الكلام وهو ما جرى عليه المفسرون‏.‏ فالتيسير مستعار للتهيئة والتسخير، أي قوة تمكينه صلى الله عليه وسلم من اليُسرى وتصرفه فيها بما يأمر الله به، أي نُهيئك للأمور اليسرى في أمر الدّين وعواقبه من تيسير حفظ القرآن لك وتيسير الشريعة التي أرسلتَ بها وتيسير الخير لك في الدنيا والآخرة‏.‏ وهذه الاستعارة تحسِّنها المشاكلة‏.‏

ومعنى اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لليسرى‏}‏ العلةُ، أي لأجل اليسرى، أي لقبولها، ونحوُه قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ كلٌّ مُيَسرٌ لِما خُلق له ‏"‏ وتكون هذه الآية على مهيع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسنيسره لليسرى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فسنيسره للعسرى‏}‏ في سورة الليل ‏(‏7 10‏)‏‏.‏

ويجوز أن يجعل الكلام جارياً على خلاف مقتضى الظاهر بسلوك أسلوب القلب وأن الأصل‏:‏ ونيسر لك اليسرى، أي نجعلها سهلة لك فلا تشقّ عليك فيبقى فعل‏:‏ «نيسرك» على حقيقته، وإنما خولف عَمله في مفعوله والمجرورِ المتعلق به على عكس الشائع في مفعوله والمجرورِ المتعلق به‏.‏

وفي وصفها ب ‏{‏اليسرى‏}‏ إيماء إلى استتباب تيسره لها بما أنها جُعلت يسرى، فلم يبق إلا حفظه من الموانع التي يشق معها تلقي اليسرى‏.‏

فاشتمل الكلام على تيسيرين‏:‏ تيسير ما كلف به النبي صلى الله عليه وسلم أي جعله يسيراً مع وفائه بالمقصود منه، وتيسير النبي صلى الله عليه وسلم للقيام بما كلف به‏.‏

ويوجَّه العدول عن مقتضى ظاهر النظم إلى ما جاء النظم عليه، بأنَّ فيه تنزيلَ الشيء الميسّر منزلة الشيء الميسَّر له والعكسَ للمبالغة في ثبوت الفعل للمفعول على طريقة القلب المقبوللِ كقول العرب‏:‏ «عَرضْتُ الناقةَ على الحوض»، وقول العجاج‏:‏

وَمهْمَهٍ مُغْبَرّةٍ أرجاؤُه *** كأن لونَ أرضِه سماؤُه

وقد ورد القلب في آيات من القرآن ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما إنَّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏ ومنه القلب التشبيه المقلوب‏.‏

والمعنى‏:‏ وعْد الله إياه بأنه يسره لتلقي أعباء الرسالة فلا تشق عليه ولا تحرجه تطميناً له إذ كان في أول أمر إرساله مشفقاً أن لا يفي بواجباتها‏.‏ أي أن الله جعله قابلاً لتلقّي الكمالات وعظائم تدبير الأمة التي من شأنها أن تشق على القائمين بأمثالها‏.‏

ومن آثار هذا التيسير ما ورد في الحديث‏:‏ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيْسرهما» وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ «إنما بعثتم مُيَسِّرين لا مُعسِّرين»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 13‏]‏

‏{‏فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ‏(‏9‏)‏ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ‏(‏10‏)‏ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ‏(‏11‏)‏ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏13‏)‏‏}‏

بعد أن ثبَّت الله رسوله صلى الله عليه وسلم تكفل له ما أزال فَرَقه من أعباء الرسالة وما اطمأنت به نفسه من دفع ما خافه من ضُعف عن أدائه الرسالةَ على وجهها وتكفل له دفع نسيان ما يوحى إليه إلا ما كان إنساؤه مراداً لله تعالى‏.‏ ووعده بأنه وفقه وهيأه لذلك ويسره عليه، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مبدأ عهده بالرسالة ‏(‏إذ كانت هذه السورة ثامنة السور‏)‏ لا يعلم ما سيتعهد الله به فيخشى أن يقصر عن مراد الله فيلحقه غضب منه أو ملام‏.‏ أعقب ذلك بأنْ أمَرَه بالتذكير، أي التبليغ، أي بالاستمرار عليه، إرهافاً لعزمه، وشحذاً لنشاطه ليكون إقباله على التذكير بشراشره فإن امتثال الأمر إذا عاضده إقبال النفس على فعل المأمور به كان فيه مسرة للمأمور، فجَمع بين أداء الواجب وإرضاء الخاطر‏.‏

فالفاء للتفريع على ما تقدم تفريعَ النتيجة على المقدمات‏.‏

والأمر‏:‏ مستعمل في طلب الدوام‏.‏

والتذكير‏:‏ تبليغ الذكر وهو القرآن‏.‏

والذكرى‏:‏ اسم مصدر التذكير وقد تقدم في سورة عبس‏.‏

ومفعول ‏{‏فذكر‏}‏ محذوف لقصد التعميم، أي فذكر الناس ودلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏سيذكر من يخشى‏}‏ الآيتين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن نفعت الذكرى‏}‏ معترضة بين الجملتين المعلَّلة وعِلتها، وهذا الاعتراض منظور فيه إلى العموم الذي اقتضاه حذف مفعول ‏{‏فذكر‏}‏، أي فدم على تذكير الناس كلهم إن نفعت الذكرى جميعهم، أي وهي لا تنفع إلا البعض وهو الذي يؤخذ من قوله‏:‏ ‏{‏سيذكر من يخشى‏}‏ الآية‏.‏

فالشرط في قوله‏:‏ ‏{‏إن نفعت الذكرى‏}‏ جملة معترضة وليس متعلقاً بالجملة ولا تقييداً لمضمونها إذ ليس المعنى‏:‏ فذكر إذا كان للذكرى نفع حتى يفهم منه بطريق مفهوم المخالفة أن لا تُذَكِّر إذا لم تنفع الذكرى، إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذكرى نافعة إذ لا سبيل إلى تعرف مواقع نفع الذكرى، ولذلك كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذكر بالقرآن من يخاف وعيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 45‏]‏ مؤولاً بأن المعنى فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد، بل المراد فذكّر الناس كافة إنْ كانت الذكرى تنفع جميعَهم، فالشرط مستعمل في التشكيك لأن أصل الشرط ب ‏(‏إنْ‏)‏ أن يكون غير مقطوع بوقوعه، فالدعوة عامة وما يعلمه الله من أحوال الناس في قبول الهدى وعدمه أمر استأثر اللَّهُ بعلمه، فأبو جهل مدعو للإِيمان والله يعلم أنه لا يؤمن لكن الله لم يخصّ بالدعوة من يرجى منهم الإِيمان دون غيرهم، والواقعُ يكشف المقدور‏.‏

وهذا تعريض بأن في القوم من لا تنفعه الذكرى وذلك يفهم من اجْتلاب حرف ‏(‏إنْ‏)‏ المقتضي عدم احتمال وقوع الشرط أو ندرة وقوعه، ولذلك جاء بعده بقوله‏:‏ ‏{‏سيذكر من يخشى‏}‏ فهو استئناف بياني ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏فذكر‏}‏ وما لحقه من الاعتراض بقوله‏:‏ ‏{‏إن نفعت الذكرى‏}‏ المشعر بأن التذكير لا ينتفع به جميع المذكَّرين‏.‏

وهذا معنى قول ابن عباس‏:‏ تنفع أوليائي ولا تنفع أعدائي، وفي هذا ما يريك معنى الآية واضحاً لا غُبار عليه ويدفع حيرة كثير من المفسرين في تأويل معنى ‏(‏إن‏)‏، ولا حاجة إلى تقدير الفراء والنحاس‏:‏ إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع وأنه اقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني‏.‏

ويذّكَّر‏:‏ مُطاوع ذَكَّره‏.‏ وأصله‏:‏ يتذكر، فقلبت التاء ذالاً لقرب مخرجيهما ليتأتى إدغامها في الذال الأخرى‏.‏

و ‏{‏من يخشى‏}‏‏:‏ جنس لا فرد معين أي سيتذكر الذين يَخْشون‏.‏ والضمير المستتر في ‏{‏يخشى‏}‏ مراعى فيه لفظ ‏(‏من‏)‏ فإنه لفظ مُفرد‏.‏

وقد نُزِّل فعل ‏{‏يخشى‏}‏ منزلة اللازم فلم يقدّر له مفعول، أي يتذكر من الخَشْيَة فكرته وجبلته، أي من يتَوقع حصول الضر والنفع فينظر في مظان كللٍ ويتدبر في الدلائل لأنه يخشى أن يحق عليه ما أنذر به‏.‏

والخشية‏:‏ الخوف، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعله يتذكر أو يخشى‏}‏ في سورة طه ‏(‏44‏)‏‏.‏ والخشية ذات مراتب وفي درجاتها يتفاضل المؤمنون‏.‏

والتجنب‏:‏ التباعد، وأصله تفعل لتكلف الكيْنونة بجانببٍ من شيء‏.‏

والجانب‏:‏ المكان الذي هو طَرَف لغيره، وتكلفُ الكينونة به كناية عن طلب البعد أي بمكان بعيد منه، أي يتباعد عن الذكرى الأشقَى‏.‏

والتعريف في ‏{‏الأشقى‏}‏ تعريف الجنس، أي الأشقَونْ‏.‏

و ‏{‏الأشقى‏}‏‏:‏ هو الشديد الشقوة، والشقوة والشقاء في لسان الشرع الحالة الناشئة في الآخرة عن الكفر من حالة الإهانة والتعذيب، وعندنا أن من علِمَ إلى موته مؤمناً فليس بشقي‏.‏

فالأشقى‏:‏ هو الكافر لأنه أشدّ الناس شقاء في الآخرة لخلوده في النار‏.‏

وتعريف ‏{‏الأشقى‏}‏ تعريف الجنس، فيشمل جميع المشركين‏.‏ ومن المفسرين من حمله على العهد فقال‏:‏ أريد به الوليد بن المغيرة، أو عتبة بن ربيعة‏.‏

ووصْفُ ‏{‏الأشقى‏}‏ ب ‏{‏الذي يصلى النار الكبرى‏}‏ لأن إطلاق ‏{‏الأشقى‏}‏ في هذه الآية في صدر مدة البعثة المحمدية فكان فيه من الإِبهام ما يحتاج إلى البيان فأتبع بوصف يبيّنه في الجملة ما نزل من القرآن من قبل هذه الآية‏.‏

ومقابلة ‏{‏من يخشى‏}‏ ب ‏{‏الأشقى‏}‏ تؤذن بأن ‏{‏الأشقى‏}‏ من شأنه أن لا يخشى فهو سادر في غروره منغمس في لهوه فلا يتطلب لنفسه تخلصاً من شقائه‏.‏

ووصفُ النار ب ‏{‏الكبرى‏}‏ للتهويل والإِنذار والمراد بها جهنم‏.‏

وجملة ‏{‏ثم لا يموت فيها ولا يحيى‏}‏ عطف على جملة ‏{‏يصلى النار الكبرى‏}‏ فهي صِلة ثانية‏.‏

و ‏(‏ثم‏)‏ للتراخي الرتبي تدل على أن معطوفها متراخي الرتبة في الغرض المسوق له الكلام وهو شدة العذاب فإن تردد حالِه بين الحياة والموت وهو في عذاب الاحتراق عذاب أشدّ ممّا أفاده أنه في عذاب الاحتراق، ضرورة أن الاحتراق واقع وقد زيد فيه درجة أنه لا راحة منه بموت ولا مخلص منه بحياة‏.‏

فمعنى ‏{‏لا يموت‏}‏‏:‏ لا يزول عنه الإِحساس، فإن الموت فقدان الإِحساس مع ما في هذه الحالة من الأعجوبة وهي مما يؤكد اعتبار تراخي الرتبة في هذا التنكيل‏.‏

وتعقيبه بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يحيى‏}‏ احتراس لدفع توهم أن يراد بنفي الموت عنهم أنهم استراحوا من العذاب لما هو متعارف من أن الاحتراق يُهلك المحرَق، فإذا قيل‏:‏ ‏{‏لا يموت‏}‏ توهَّم المنذَرون أن ذلك الاحتراق لا يبلغ مبلغ الإِهلاك فيبقى المحرق حياً فيظن أنه إحراق هيّن فيكون مسلاة للمهددين فلدفع ذلك عطف عليه ‏{‏ولا يحيى‏}‏، أي حياة خالصة من الآلام والقرينة على الوصف المذكور مقابلة ولا يحيى بقوله‏:‏ ‏{‏يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها‏}‏‏.‏

وليس هذا من قبيل نفي وصفين لإثبات حالةٍ وسَطٍ بينَ حالتيهما مثل‏:‏ ‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ وقول إحدى نساء أم زرع‏:‏ «لا حَرّ ولا قُرّ» لأن ذلك لا طائل تحته‏.‏

ويجوز أن نجعل نفي الحياة كناية عن نفي الخلاص بناء على أن لازم الإِحراق الهلاك ولازم الحياة عدم الهلاك‏.‏

وفي الآية مُحسِّن الطباق لأجل التضاد الظاهر بين ‏{‏لا يموت‏}‏ و‏{‏لا يحيى‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏14‏)‏ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ‏(‏15‏)‏‏}‏

استئناف بياني لأن ذكر ‏{‏من يخشى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 10‏]‏ وذكر ‏{‏الأشقى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 11‏]‏ يثير استشراف السامع لمعرفة أثر ذلك فابتدئ بوصف أثر الشقاوة فوصف ‏{‏الأشقى‏}‏ بأنه ‏{‏يصلى النار الكبرى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 12‏]‏ وأخر ذكر ثواب الأتقى تقديماً للأهمّ في الغرض وهو بيان جزاء الأشقى الذي يتجنب الذكرى وبقي السامع ينتظر أن يعلم جزاء من يخشى ويتذكر‏.‏ فلما وفي حق الموعظة والترهيبة استؤنف الكلام لبيان المثوبة والترغيب‏.‏ فالمراد ب ‏{‏من تزكى‏}‏ هنا عين المراد ب «من يخشى ويذكر» فقد عرف هنا بأنه الذي ذكر اسم ربه، فلا جرم أن ذكر اسم ربه هو التذكر بالذكرى، فالتذكر هو غاية الذكرى المأمور بها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذكر‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وقد جُمعت أنواع الخير في قوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح‏}‏ فإن الفلاح نجاح المرء فيما يطمح إليه فهو يجمع معنيي الفوز والنفع وذلك هو الظفر بالمبتغى من الخير، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ في البقرة ‏(‏5‏)‏‏.‏

والإِتيان بفعل المضي في قوله أفلح‏}‏ للتنبيه على المحقق وقوعه من الآخرة، واقترانه بحرف ‏{‏قد‏}‏ لتحقيقه وتثنيته كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9‏]‏ لأن الكلام موجه إلى الأشقَيْنَ الذين تجنبوا الذكرى إثارة لهمتهم في الإلتحاق بالذين خشوا فأفلحوا‏.‏

ومعنى ‏{‏تزكَّى‏}‏‏:‏ عالج أن يكون زكياً، أي بذل استطاعته في تطهير نفسه وتزكيتها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9 10‏]‏‏.‏

فمادة التفعل للتكلف وبذل الجهد، وأصل ذلك هو التوحيدُ والاستعداد للأعمال الصالحة التي جاء بها الإسلام ويجيء بها، فيشمل زكاة الأموال‏.‏

أخرج البزار عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏قد أفلح من تزكى‏}‏ قال‏:‏ من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله، ‏{‏وذكر اسم ربه فصلى‏}‏ قال‏:‏ هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها، وهو قول ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة‏.‏

وقدم التزكّي على ذكر الله والصلاةِ لأنه أصل العمل بذلك كله فإنه إذا تطهرت النفس أشرقت فيها أنوار الهداية فعُلمت منافعها وأكثرت من الإِقبال عليها فالتزكية‏:‏ الارتياض على قبول الخير والمراد تزكّى بالإِيمان‏.‏

وفعل ‏{‏ذكر اسم ربه‏}‏ يجوز أن يكون من الذّكر اللساني الذي هو بكسر الذال فيكون كلمة ‏{‏اسم ربه‏}‏ مراداً بها ذكر أسماء الله بالتعظم مثل قول لا إله إلا الله، وقول الله أكبر، وسبحان الله، ونحو ذلك على ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون من الذُّكر بضم الذال وهو حضور الشيء في النفس الذاكرة والمفكرة فتكون كلمة ‏{‏اسم‏}‏ مقحمة لتدل على شأن الله وصفات عظمته فإن أسماء الله أوصاف كمال‏.‏

وتفريع ‏{‏فصلى‏}‏ على ‏{‏ذكر اسم ربه‏}‏ على كلا الوجهين لأن الذكر بمعنييه يبعث الذاكر على تعظيم الله تعالى والتقرب إليه بالصلاة التي هي خضوع وثناء‏.‏

وقد رتبت هذه الخصال الثلاث على الآية على ترتيب تولدها‏.‏ فأصلها‏:‏ إزالة الخباثة النفسية من عقائد باطلة وحديث النفس بالمضمرات الفاسدة وهو المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏تزكى‏}‏، ثم استحضارُ معرفة الله بصفات كماله وحكمته ليخافه ويرجوه وهو المشار بقوله‏:‏ ‏{‏وذكر اسم ربه‏}‏ ثم الإِقبالُ على طاعته وعبادته وهو المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏فصلى‏}‏ والصلاةُ تشير إلى العبادة وهي في ذاتها طاعة وامتثال يأتي بعده ما يشرع من الأعمال قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر اللَّه أكبر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏16‏)‏ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏17‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور ‏{‏تؤثرون‏}‏ بمثناة فوقية بصيغة الخطاب، والخطاب موجه للمشركين بقرينة السياق وهو التفات، وقرأه أبو عمرو وحدَه بالمثناة التحتية على طريقة الغيبة عائداً إلى ‏{‏الأشقى الذي يصلى النار الكبرى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 11، 12‏]‏‏.‏

وحرف ‏{‏بَل‏}‏ معناه الجامع هو الإضراب، أي انصراف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد ‏{‏بل‏}‏؛ فهو إذا عَطَف المفردات كان الإضراب إبطالاً للمعطوف عليه‏:‏ لغلط في ذكر المعطوف أو للاحتراز عنه فذلك انصراف عن الحكم‏.‏ وإذا عطفَ الجمل فعطفه عطف كلام على كلام وهو عطف لفظي مجرد عن التشريك في الحكم ويقع على وجهين، فتارة يقصد إبطال معنى الكلام نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 70‏]‏ فهو انصراف في الحُكم، وتارة يقصد مجرد التنقل من خبر إلى آخر مع عدم إبطال الأول نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 62، 63‏]‏‏.‏ فتكون ‏{‏بل‏}‏ بمنزلة قولهم «دع هذا» فهذا انصراف قولي‏.‏ ويعرف أحد الإضرابين بالقرائن والسياق‏.‏

و ‏{‏بل‏}‏ هنا عاطفة جملة عطفاً صُورياً فيجوز أن تكون لمجرد الانتقال من ذكر المنتفعين بالذكرى والمتجنبين لها، إلى ذكر سبب إعراض المتجنبين وهم الأشْقَون بأنَّ السبب إيثارهم الحياة الدنيا، وذلك على قراءة أبي عمرو ظاهر، وأما على قراءة الجمهور فهو إضراب عن حكاية أحوال الفريقين بالانتقال إلى توبيخ أحد الفريقين وهو الفريق الأشقى فالخطاب موجه إليهم على طريقة الالتفات لتجديد نشاط السامع لكي لا تنقضي السورة كلها في الإخبار عنهم بطريق الغيبة‏.‏

ويجوز أن يكون الإضراب إبطالاً لما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح من تزكى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14‏]‏ من التعريض للذين شَقُوا بتحريضهم على طلب الفلاح لأنفسهم ليلتحقوا بالذين يخشون ويتزكّون ليبطل أن يكونوا مظنة تحصيل الفلاح‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم بُعداء عن أن يظنّ بهم التنافس في طلب الفلاح لأنهم يؤثرون الحياة الدنيا، فالمعنى‏:‏ بل أنتم تؤثرون منافع الدنيا على حظوظ الآخرة، وهذا كما يقول الناصح شخصاً يظن أنه لا ينتصح «لقد نصحتك وما أظنك تفعل»‏.‏

ويجيء فيه الوجهان المتقدمان من الخطاب والغيبة على القراءتين‏.‏

والإِيثار‏:‏ اختيار شيء من بين متعدد‏.‏

والمعنى‏:‏ تؤثرون الحياة الدنيا بعنايتكم واهتمامكم‏.‏

ولم يُذكر المؤثَر عليه لأن الحياة الدنيا تدل عليه، أي لا تتأملون فيما عدَا حياتكم هذه ولا تتأمّلون في حياة ثانية، فالمشركون لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكِّروا بالحياة الآخرة وأخبروا بها لم يُعيروا سمعهم ذلك وجعلوا ذلك من الكلام الباطل وهذا مورد التوبيخ‏.‏

واعلم أنّ للمؤمنين حظاً من هذه الموعظة على طول الدهر، وذلك حظ مناسب لمقدار ما يفرِّط فيه أحدهم مما ينجيه في الآخرة إيثاراً لما يجتنيه من منافع الدنيا التي تجر إليه تَبِعةً في الآخرة على حسب ما جاءت به الشريعة، فأما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك مَيدانٌ للهمم وليس ذلك بمحل ذم قال تعالى‏:‏

‏{‏وابتغ فيما آتاك اللَّه الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والآخرة خير وأبقى‏}‏ عطف على جملة التوبيخ عطفَ الخبر على الإنشاء لأن هذا الخبر يزيد إنشاءَ التوبيخ توجيهاً وتأييداً بأنهم في إعراضهم عن النظر في دلائل حياة آخرة قد أعرضوا عما هو خير وأبقَى‏.‏

و ‏{‏أبقى‏}‏‏:‏ اسم تفضيل، أي أطول بقاءً، وفي حديث النهي عن جَرِّ الإزار «وليكن إلى الكعبين فإنه أتقَى وأبْقَى»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏18‏)‏ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ‏(‏19‏)‏‏}‏

تذييل للكلام وتنويه به بأنه من الكلام النافع الثابت في كتب إبراهيم وموسى عليهما السلام، قصد به الإِبلاغ للمشركين الذين كانوا يعرفون رسالة إبراهيم ورسالة موسى، ولذلك أكّد هذا الخبر ب ‏{‏إنَّ‏}‏ ولام الابتداء لأنه مسوق إلى المنكرين‏.‏ 6

والإِشارة بكلمة ‏{‏هذا‏}‏ إلى مجموع قوله ‏{‏قد أفلح من تزكى إلى قوله وأبقى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14 17‏]‏ فإن ما قَبْل ذلك من أول السورة إلى قوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح من تزكى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14‏]‏، ليس مما ثَبت معناه في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام‏.‏

روى ابن مردويه والآجُري عن أبي ذر قال‏:‏ «قلت يا رسول الله هل أُنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى‏؟‏ قال‏:‏ نعم ‏{‏قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والأخرة خير وأبقى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14 17‏]‏‏.‏ ولم أقف على مرتبة هذا الحديث‏.‏

ومعنى الظرفية من قوله‏:‏ ‏{‏لفي الصحف‏}‏ أن مماثله في المعنى مكتوب في الصحف الأولى، فأطلقت الصحف على ما هو مكتوب فيها على وجه المجاز المرسل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا ربنا عجل لنا قطنا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 16‏]‏، أي ما في قِطِّنا وهو صك الأعمال‏.‏

و ‏{‏الصحف‏}‏‏:‏ جمع صحيفة على غير قياس لأن قياس جمعه صحائف، ولكنه مع كونه غير مقيس هو الأفصح كما قالوا‏:‏ سُفُن في جمع سفينة، ووجه جمع الصحف أن إبراهيم كانت له صحف وأن موسى كانت له صحف كثيرة وهي مجموع صحف أسفار التوراة‏.‏

وجاء نظم الكلام على أسلوب الإِجمال والتفصيل ليكون لهذا الخبر مزيد تقرير في أذهان الناس فقوله‏:‏ ‏{‏صحف إبراهيم وموسى‏}‏ بدل من ‏{‏الصحف الأولى‏}‏‏.‏

و ‏{‏الأولى‏}‏‏:‏ وصف لصُحف الذي هو جمع تكسير فله حكم التأنيث‏.‏ و‏{‏الأولى‏}‏ صيغة تفضيل‏.‏ واختلف في الحروف الأصلية للفظ أوّل فقيل‏:‏ حروفه الأصول همزة فواو ‏(‏مكررة‏)‏ فلام ذكره في «اللسان» فيكون وزن أول‏:‏ أَأَوَل، فقلبت الهمزة الثانية واواً وأدغمت في الواو‏.‏ وقيل‏:‏ أُصوله‏:‏ وَاوَان ولام وأن الهمزة التي في أوله مزيدة فوزن أول‏:‏ أفعل وإدغام إحدى الواوين ظاهر‏.‏

وقيل‏:‏ حروفه الأصلية واو وهمزة ولام فأصل أول أوْ ألْ بوزن أفعل قلبت الهمزة التي بعد الواو واواً وأدغما‏.‏

و ‏{‏الأولى‏}‏‏:‏ مؤنث أفعل من هذه المادة فإما أن نقول‏:‏ أصلها أُوْلى سكنت الواو سكوناً ميتاً لوقوعها إثر ضمة، أو أصلها‏:‏ وُوْلَى بواو مضمومة في أوله وسكنت الواو الثانية أيضاً، أو أصلها‏:‏ وُألَى بواو مضمومة ثم همزة ساكنة فوقع فيه قلب، فقيل‏:‏ أولى فوزنها على هذا عُفْلَى‏.‏

والمراد بالأولية في وصف الصحف سبق الزمان بالنسبة إلى القرآن لا التي لم يسبقها غيرها لأنه قد روي أن بعض الرسل قبل إبراهيم أنزلت عليه صحف فهو كوصف ‏{‏عاد بالأولى‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا نذير من النذر الأولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 56‏]‏ وفي حديث البخاري‏:‏ ‏"‏ إنَّ مما أدرك الناسُ من كلام النبوءة الأولى إذَا لم تستح فاصنع ما شئت ‏"‏‏.‏

وأخرج عبدُ بن حميد وابن مردويه وابن عساكر وأبو بكر الآجُري عن أبي ذرّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صحف إبراهيم كانت عشر صحائف‏.‏

سورة الغاشية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

الافتتاح بالاستفهام عن بلوغ خبر الغاشية مستعمل في التشويق إلى معرفة هذا الخبر لما يترتب عليه من الموعظة‏.‏

وكونُ الاستفهام ب ‏{‏هل‏}‏ المفيدة معنى ‏(‏قد‏)‏، فيه مزيد تشويق فهو استفهام صوري يكنى به عن أهمية الخبر بحيث شأنه أن يكون بلَغ السامع، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهل أتاك نبؤا الخصم‏}‏ في سورة ص ‏(‏21‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هل أتاك حديث موسى‏}‏ في سورة النازعات ‏(‏15‏)‏‏.‏

وتقدم هنالك إطلاق فعل الإِتيان على فشو الحديث‏.‏

وتعريف ما أضيف إليه حديث‏}‏ بوصفه ‏{‏الغاشية‏}‏ الذي يقتضي موصوفاً لم يذكر هو إبهام لزيادة التشويق إلى بيانه الآتي ليتمكن الخبر في الذهن كمال تمكُّن‏.‏

والحديث‏:‏ الخبر المتحدَّث به وهو فعيل بمعنى مفعول، أو الخبر الحاصل بحدثان أي ما حدث من أحوال‏.‏ وتقدم في سورة النازعات‏.‏

و ‏{‏الغاشية‏}‏‏:‏ مشتقة من الغشيان وهو تغطية متمكنة وهي صفة أريد بها حادثة القيامة سميت غاشية على وجه الاستعارة لأنها إذا حصلت لم يجد الناس مَفراً من أهوالها فكأنها غاششٍ يغشى على عقولهم‏.‏ ويطلق الغشيان على غيبوبة العقل فيجوز أن يَكون وصف الغاشية مشتقاً منه‏.‏ ففهم من هذا أن الغاشية صفة لمحذوف يدل عليه السياق وتأنيث الغاشية لتأويلها بالحادثة ولم يستعملوها إلا مؤنثة اللفظ والتأنيث كثير في نقل الأوصاف إلى الإسمية مثل الداهية والطامة والصاخة والقارعة والآزفة‏.‏

و ‏{‏الغاشية‏}‏ هنا‏:‏ علم بالغلبة على ساعة القيامة كما يؤذن بذلك قوله عقبه ‏{‏وجوه يومئذ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 2‏]‏ أي يوم الغاشية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 7‏]‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ‏(‏2‏)‏ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ‏(‏3‏)‏ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ‏(‏4‏)‏ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ ‏(‏5‏)‏ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ‏(‏6‏)‏ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وجوه‏}‏ مبتدأ و‏{‏خاشعة‏}‏ خبر والجملة بيان لحديث الغاشية كما يفيده الظرف من قوله‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ فإن مَا صدَقَه هو يومُ الغاشية‏.‏ ويكون تنكير ‏{‏وجوه‏}‏ وهو مبتدأ قُصد منه النوع‏.‏

و ‏{‏خاشعة، عاملة، ناصبة‏}‏ أخبار ثلاثة عن ‏{‏وجوه‏}‏، والمعنى‏:‏ أناس خاشعون الخ‏.‏

فالوجوه كناية عن أصحابها، إذ يكنى بالوجه عن الذات كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقرينة ذلك هنا قوله بعده‏:‏ ‏{‏ليس لهم طعام إلا من ضريع‏}‏ إذ جعل ضمير الوجوه جماعة العقلاء‏.‏

وأوثرت الوجوه بالكناية عن أصحابها هنا وفي مثل هذا المقام لأن حالة الوجوه تنبئ عن حالة أصحابها إذ الوجه عنوان عما يجده صاحبه من نعيم أو شقوة كما يقال‏:‏ خرج بوجه غير الوجه الذي دخل به‏.‏

وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ مسفرة‏}‏ الآية في سورة عبس ‏(‏38‏)‏‏.‏

ويجوز أن يجعل إسناد الخشوع والعمل والنصَب إلى وجوه‏}‏ من قبيل المجاز العقلي، أي أصحاب وجوه‏.‏

ويتعلق ‏{‏يومئذ‏}‏ ب ‏{‏خاشعة‏}‏ قدم على متعلقه للاهتمام بذلك اليوم ولما كانت ‏(‏إذ‏)‏ من الأسماء التي تلزم الإضافة إلى جملة فالجملة المضاف إليها ‏(‏إذْ‏)‏ محذوفة عُوّض عنها التنوين، ويدل عليها ما في اسم ‏{‏الغاشية‏}‏ من لمح أصل الوصفية لأنها بمعنى التي تغشى الناس فتقدير الجملة المحذوفة يوم إذ تغشى الغاشية‏.‏

أو يدل على الجملة سياق الكلام فتقدر الجملة‏:‏ يوم إذ تحدث أو تقع‏.‏

و ‏{‏خاشعة‏}‏‏:‏ ذليلة يطلق الخشوع على المذلة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 45‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 44‏]‏‏.‏

والعاملة‏:‏ المكلفة العَمَل من المشاق يومئذ‏.‏ و‏{‏ناصبة‏}‏‏:‏ من النصب وهو التعب‏.‏

وأوثر وصف ‏{‏خاشعة‏}‏ و‏{‏عاملة‏}‏ و‏{‏ناصبة‏}‏ تعريضاً بأهل الشقاء بتذكيرهم بأنهم تركوا الخشوع لله والعمل بما أمر به والنصبَ في القيام بطاعته، فجزاؤهم خشوع مذلّة، وعمل مشقة، ونصَب إرهاق‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏تصلى ناراً حامية‏}‏ خبر رابع عن ‏{‏وجوه‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون حالاً، يقال‏:‏ صَلِيَ يصلَى، إذا أصابه حرُّ النار، وعليه فذكر‏:‏ ‏{‏ناراً‏}‏ بعد ‏{‏تصلى‏}‏ لزيادة التهويل والإِرهاب وليُجرَى على ‏{‏ناراً‏}‏ وصف ‏{‏حامية‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تصلى‏}‏ بفتح التاء أي يُصيبُها صِلْيُ النار‏.‏ وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب «تُصْلَى» بضم التاء من أصلاه النار بهمزة التعدية إذا أناله حرَّها‏.‏

ووصف النار ب ‏{‏حامية‏}‏ لإفادة تجاوز حرها المقدار المعروف لأن الحمي من لوازم ماهية النار فلما وصفت ب ‏{‏حامية‏}‏ كان دالاً على شدة الحمى قال تعالى‏:‏ ‏{‏نار اللَّه الموقدة‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وأخبر عن ‏{‏وجوه‏}‏ خبراً خامساً بجملة ‏{‏تسقى من عين آنية‏}‏ أو هو حال من ضمير ‏{‏تصلى‏}‏ لأن ذكر الاحتراق بالنار يُحضر في الذهن تطلب إطفاء حرارتها بالشراب فجُعل شرابهم من عين آنية‏.‏

يقال‏:‏ أنَى إذا بلغ شدة الحرارة، ومنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏يطوفون بينها وبين حميم آن‏}‏ في سورة الرحمن ‏(‏44‏)‏‏.‏

وذكر السقي يُخطر في الذهن تطلب معرفة ما يَطْعمونه فجيء به خبراً سادساً أو حالاً من ضمير تسقى‏}‏ بجملة ‏{‏ليس لهم طعام إلا من ضريع‏}‏، أي يطعمون طعام إيلام وتعذيب لا نفع فيه لهم ولا يدفع عنهم ألماً‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ليس لهم طعام‏}‏ الخ خبر سادس عن ‏{‏وجوه‏}‏‏.‏

وضمير ‏{‏لهم‏}‏ عائد إلى ‏{‏وجوه‏}‏ باعتبار تأويله بأصحاب الوجوه ولذلك جئ به ضمير جماعة المذكر‏.‏ والتذكير تغليب للذكور على الإِناث‏.‏

والضريع‏:‏ يابس الشِّبْرِق ‏(‏بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة وكسر الراء‏)‏ وهو نبت ذو شَوك إذا كان رطباً فإذا يبس سمي ضَريعاً وحينئذ يصير مسموماً وهو مرعى للإِبل ولحُمُر الوحش إذا كان رطباً، فما يعذب بأهل النار بأكله شبه بالضريع في سوء طعمه وسوء مَغبته‏.‏

وقيل‏:‏ الضريع اسم سَمّى القرآن به شجراً في جهنم وأن هذا الشجر هو الذي يسيل منه الغِسلين الوارد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من غسلين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 35، 36‏]‏ وعليه فحرف ‏{‏مِن للابتداء، أي ليس لهم طعام إلا ما يخرج من الضريع والخارج هو الغسلين وقد حصل الجمع بين الآيتين‏.‏

ووصفُ ضريع بأنه لا يُسمن ولا يغني من جوع لتشويهه وأنه تمحض للضر فلا يعود على آكليه بسمن يصلح بعض ما التفح من أجسادهم، ولا يغني عنهم دفع ألم الجوع، ولعل الجوع من ضروب تعذيبهم فيسألون الطعام فيُطعمون الضريع فلا يدفع عنهم ألم الجوع‏.‏

والسِمن، بكسر السين وفتح الميم‏:‏ وفرة اللحم والشحم للحيوان يقال‏:‏ أسمنه الطعامُ، إذا عاد عليه بالسمن‏.‏

والإِغناء‏:‏ الإِكفاء ودفع الحاجة‏.‏ ومن جوع‏}‏ متعلق ب ‏{‏يغني‏}‏ وحرف ‏{‏من‏}‏ لمعنى البدلية، أي غناء بدلاً عن الجوع‏.‏

والقصر المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏ليس لهم طعام إلا من ضريع‏}‏ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا طعام إلا من غسلين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 36‏]‏ يؤيد أن الضريع اسم شجر جهنم يسيل منه الغسلين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ‏(‏8‏)‏ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

يتبادر في بادئ الرأي أن حق هذه الجملة أن تعطف على جملة ‏{‏وجوه يومئذٍ خاشعة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 2‏]‏ بالواو لأنها مشاركة لها في حكم البيان لحديث الغاشية كما عطفت جملة‏:‏ ‏{‏ووجوه يومئذ عليها غبرة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 40‏]‏ على جملة‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ مسفرة‏}‏ في سورة عبس ‏(‏38‏)‏‏.‏ فيتجهُ أن يُسأل عن وجه فصلها عن التي قبلها، ووجه الفصل التنبيه على أن المقصود من الاستفهام في ‏{‏هل أتاك حديث الغاشية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 1‏]‏ الإِعلام بحال المعرَّض بتهديدهم وهم أصحاب الوجوه الخاشعة فلما حصل ذلك الإِعلام بجملة‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذٍ خاشعة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 2‏]‏ إلى آخرها تم المقصود، فجاءت الجملة بعدها مفصولة لأنها جعلت استئنافاً بيانياً جواباً عن سؤال مقدر تثيره الجملة السابقة فيتساءل السامع‏:‏ هل من حديث الغاشية ما هو مغاير لهذا الهول‏؟‏ أي ما هو أنس ونعيم لقوم آخرين‏.‏

ولهذا النظم صارت هذه الجملة بمنزلة الاستطراد والتتميم، لإظهار الفرق بين حالي الفريقين ولتعقيب النذارة بالبشارة فموقع هذه الجملة المستأنفة موقع الاعتراض ولا تنافي بين الاستئناف والاعتراض وذلك موجب لفصلها عما قبلها‏.‏ وفيه جري القرآن على سننه من تعقيب الترهيب والترغيب‏.‏

فأما الجملتان اللتان في سورة عبس فلم يتقدمهما إبهام لأنهما متصلتان معاً بالظرف وهو ‏{‏فإذا جاءت الصاخة‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وقد علم من سياق توجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الوجوه الأولى وجوه المكذبين بالرسول، والوجوه المذكورة بعدها وجوه المؤمنين المصدقين بما جاء به‏.‏

والقول في تنكير ‏{‏وجوه‏}‏، والمراد بها، والإِخبار عنها بما بعدها، كالقول في الآيات التي سبقتها‏.‏

و ‏{‏ناعمة‏}‏‏:‏ خبر عن ‏{‏وجوه‏}‏‏.‏ يجوز أن يكون مشتقاً من نُعم بضم العين ينعُمُ بضمها الذي مصدره نعومة وهي اللين وبهجة المرأى وحسن المنظر‏.‏

ويجوز أن يكون مشتقاً من نَعِم بكسر العين ينعَم مثل حَذِرَ، إذا كان ذا نعمة، أي حسن العيش والترف‏.‏

ويتعلق ‏{‏لسعيها‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏راضية‏}‏، و‏{‏راضية‏}‏ خبر ثاننٍ عن ‏{‏وجوه‏}‏‏.‏

والمراد بالسعي‏:‏ العمل الذي يسعاه المرء ليستفيد منه‏.‏ وعبّر به هنا مقابل قوله في ضده ‏{‏عاملة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 3‏]‏‏.‏

والرضى‏:‏ ضد السخط، أي هي حامدة ما سعته في الدنيا من العمل الذي هو امتثال ما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم

والمجرور في قوله‏:‏ ‏{‏في جنة عالية‏}‏ خبر ثالث عن ‏{‏وجوه‏}‏‏.‏

والجنة أريد به مجموع دار الثواب الصادقُ بجنات كثيرة أو أريد به الجنس مثل ‏{‏علمت نفس‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 14‏]‏‏.‏

ووصف ‏{‏جنة‏}‏ ب ‏{‏عالية‏}‏ لزيادة الحسن لأن أحسن الجنات ما كان في المرتفعات، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل جنة بربوة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 265‏]‏ فذلك يزيد حسن باطنها بحسن ما يشاهده الكائنُ فيها من مناظر، وهذا وصف شامل لحسن موقع الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ‏(‏11‏)‏‏}‏

اللاغية‏:‏ مصدر بمعنى اللّغو مثل الكاذبة للكذب‏.‏ والخائنة والعافية، أي لا يسمع فيها لغو، أو هو وصف لموصوف مقدر التأنيث، أي كلمة لاغية لما دل عليه ‏{‏لاغيةٌ‏}‏ من أنها كلمات، ووصف الكلمة بذلك مجاز عقلي لأن اللاغي صاحبها‏.‏

ونفي سماع ‏{‏لاغيةٌ‏}‏ مكنى به عن انتفاء اللغو في الجنة من باب‏:‏

ولا ترى الضب بها ينْجَحِر ***

أي لا ضَبّ بها إذ الضب لا يخلو من الإِنجِحَار‏.‏

واللغو‏:‏ الكلام الذي لا فائدة له، وهذا تنبيه على أن الجنة دار جد وحقيقة فلا كلام فيها إلا لفائدة لأن النفوس فيها تخلصت من النقائص كلها فلا يلذّ لها إلا الحقائق والسمو العقلي والخُلُقي، ولا ينطقون إلا ما يزيد النفوس تزكية‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لا تسمع فيها لاغية‏}‏ صفة ثانية ل ‏{‏جنة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 10‏]‏ تُرك عطفها على الصفة التي قبلها لأن النعوت المتعددة يجوز أن تعطف ويجوز أن تفصل دون عطف قال في «التسهيل»‏:‏ «ويجوز عطف بعض النعوت على بعض وقال المرادي في «شرحه» نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 2 4‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ولا يعطف إلا بالواو ما لم يكن ترتيب‏:‏ فبالفاء كقوله‏:‏

يا لهفَ زَيَّابَةَ للحارب ال *** صابِح فالغانم فالآيب

قال السهيلي‏:‏ والعطف ب ‏(‏ثم‏)‏ جوازه بعيد‏.‏ اه‏.‏ قال الدماميني‏:‏ وكذا في الجمل نحو مررت برجل يحفظ القرآن ويعرف الفقه ويتقي إلى الله، قال‏:‏ ونص الواحدي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏‏.‏ أن لا يألونكم وما بعده من الجمل ‏(‏أي الثلاث‏)‏ لا يكون صفات، لعدم العاطف لكن ظاهر سكوت الجمهور عن وجوب العطف يشعر بجوازه فيها ‏(‏أي الجمل‏)‏ كالمفردات اه‏.‏

ابتدئ في تعداد صفات الجنة بصفتها الذاتية وهو كونها عالية، وثُني بصفة تنزيهها عمّا يعدّ من نقائص مجامع الناس ومساكن الجماعات وهو الغوغاء واللغو، وقد جردت هذه الجملة من أن تعطف على ‏{‏عالية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 10‏]‏ مراعاة لعدم التناسب بين المفردات والجمل وذلك حقيق بعدم العطف لأنه أشد من كمال الانقطاع في عطف الجمل‏.‏

وهذا وصف للجنة بحسن سكانها‏.‏

وقرأ نافع ‏{‏لا تسُمع‏}‏ بمثناة فوقية مضمومة و‏{‏لاغيةُ‏}‏ نائب فاعل، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بمثناة تحتية مضمومة وبرفع ‏{‏لاغيةٌ‏}‏ أيضاً فأُجري الفعل على التذكير لأن ‏{‏لاغيةٌ‏}‏ ليس حقيقي التأنيث وحسَّنه وقوع الفصل بين الفعل وبين المسند إليه، وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وروْح عن يعقوب بفتح المثناة الفوقية وبنصب ‏{‏لاغيةٌ‏}‏، والتاء لخطاب غير المعين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

صفة ثالثة ل ‏{‏جنة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 10‏]‏‏.‏ فالمراد جنس العيون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏علمت نفس ما أحضرت‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 14‏]‏، أي علمت النفوس، وهذا وصف للجنة باستكمالها محاسن الجنات قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وإنما لم تعطف على الجملة التي قبلهما لاختلافهما بالفعلية في الأولى والإسمية في الثانية، وذلك الاختلاف من محسنات الفصل ولأن جملة‏:‏ ‏{‏لا تسمع فيها لاغيةٌ‏}‏ مقصود منها التنزه عن النقائص وجملة‏:‏ ‏{‏فيها عين جارية‏}‏ مقصود منها إثبات بعض محاسنها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏

‏{‏فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ‏(‏15‏)‏ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ‏(‏16‏)‏‏}‏

صفة رابعة لجنة‏.‏

وأعيد قوله‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏ دون أن يعطف ‏{‏سرر‏}‏ على ‏{‏عين‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 12‏]‏ عطفَ المفردات لأن عطف السرر على ‏{‏عَيْنٌ‏}‏ يبدو نابياً عن الذوق لعدم الجامع بين عين الماء والسرر في الذهن لولا أن جمعها الكون في الجنة فلذلك كرر ظرف ‏{‏فيها‏}‏ تصريحاً بأن تلك الظرفية هي الجامع، ولأن بين ظرفية العين الجارية في الجنة وبين ظرفية السرر وما عطف عليه من متاع القصور والأثاث تفاوتاً ولذلك عطف ‏{‏وأكواب‏}‏، ‏{‏ونمارق‏}‏، ‏{‏وزرابي‏}‏، لأنها متماثلة في أنها من متاع المساكن الفائقة‏.‏

وهذا وصف لمحاسن الجنة بمحاسن أثاث قصورها فضمير فيها عائد للجنة باعتبار أن ما في قصورها هو مظروف فيها بواسطة‏.‏

و ‏{‏سُرر‏}‏‏:‏ جمع سرير، وهو ما يُجلس عليه ويضطجع عليه فيسع الإنسان المضطجع، يتخذ من خشب أو حديد له قوائم ليكون مرتفعاً عن الأرض‏.‏ ولما كان الارتفاع عن الأرض مأخوذاً في مفهوم السرر كان وصفها ب ‏{‏مرفوعة‏}‏ لتصوير حُسنها‏.‏

و ‏{‏الأكواب‏}‏‏:‏ جمع كُوب بضم الكاف، وهو إناء للخَمر له ساق ولا عروة له‏.‏

و ‏{‏موضوعةٌ‏}‏‏:‏ أي لا ترفع من بين أيديهم كما تُرفع آنية الشراب في الدنيا إذا بلغ الشاربون حد الاستطاعة من تناول الخمر، وكني ب ‏{‏موضوعة‏}‏ عن عدم انقطاع لذة الشراب طَعماً ونشوة، أي موضوعة بما فيها من أشربة‏.‏

وبَينَ ‏{‏مرفوعة‏}‏ و‏{‏موضوعة‏}‏، إيهَام الطِّباق لأن حقيقة معنى الرفع ضد حقيقة معنى الوضع، ولا تضادَّ بين مجاز الأول وحقيقة الثاني ولكنه إيهام التضاد‏.‏

والنَّمارق‏:‏ جمع نُمرقة بضم النون وسكون ميم بعدها راء مضمومة وهي الوسادة التي يَتكئ عليها الجالس والمضطجعُ‏.‏

و ‏{‏مصفوفة‏}‏‏:‏ أي جُعل بعضها قريباً من بعض صفاً، أي أينما أراد الجالس أن يجلس وجدها‏.‏

و ‏{‏زرابيّ‏}‏‏:‏ جمع زَرْبيَّة بفتح الزاي وسكون الراء وكسر الموحدة وتشديد الياء، وهي البساط أو الطُنفسة ‏(‏بضم الطاء‏)‏ المنسوج من الصوف الملون الناعم يفرش في الأرض للزينة والجلوس عليه لأهل الترف واليسار‏.‏

والزربية نسبة إلى ‏(‏أذربيجان‏)‏ بلدٍ من بلاد فارس وبخَارى، فأصل زربية أذربية، حذفت همزتها للتخفيف لثقل الاسم لعجمته واتصال ياء النسب به، وذَالها مبدَلة عن الزاي في كلام العرب لأن اسم البلد في لسان الفرس أزربيجان بالزاي المعجمة بعدها راء مهملة وليس في الكلام الفارسي حرف الذال، وبلد ‏(‏أذرْبيجان‏)‏ مشهور بنعومة صوف أغنامه‏.‏ واشتهر أيضاً بدقة صنع البُسُط والطنافس ورقّة خَمَلها‏.‏

والمبثوثة‏:‏ المنتشرة على الأرض بكثرة وذلك يفيد كناية عن الكثرة‏.‏

وقد قوبلت صفات وجوه أهل النار بصفات وجوه أهل الجنة فقوبلت صفات ‏{‏خاشعة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 2‏]‏، ‏{‏عاملة‏}‏ ‏{‏ناصبة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 3‏]‏ بصفات ‏{‏ناعمة لسعيها راضية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 8، 9‏]‏، وقوبل قوله‏:‏ ‏{‏تصلى ناراً حامية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 4‏]‏ بقوله‏:‏ في ‏{‏جنة عالية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقوبل‏:‏ ‏{‏تسقى من عين آنية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 5‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏فيها عين جارية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 12‏]‏، وقوبل شقاء عيش أهل النار الذي أفاده قوله‏:‏

‏{‏ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 6، 7‏]‏، بمقاعد أهل الجنة المشعرةِ بترف العيش من شراب ومتاع‏.‏

وهذا وعد للمؤمنين بأن لهم في الجنة ما يعرفون من النعيم في الدنيا وقد علموا أن ترف الجنة لا يبلغه الوصف بالكلام وجمع ذلك بوجه الإِجمال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 71‏]‏، ولكن الأرواح ترتاح بمألوفاتها فتعطاها فيكون نعيم أرواح الناس في كل عصر ومن كل مصر في الدرجة القصوى مما ألفوه ولا سيما ما هو مألوف لجميع أهل الحضارة والترف وكانوا يتمنونه في الدنيا ثم يُزادون من النعيم «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ‏(‏17‏)‏ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ‏(‏18‏)‏ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ‏(‏19‏)‏ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ‏(‏20‏)‏‏}‏

لما تقدم التذكير بيوم القيامة ووصف حال أهل الشقاء بما وصفوا به، وكان قد تقرر فيما نزل من القرآن أن أهل الشقاء هم أهل الإشراك بالله، فُرع على ذلك إنكارٌ عليهم إعراضَهم عن النظر في دلائل الوحدانية، فالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏أفلا ينظرون‏}‏ تفريع التعليل على المعلل لأن فظاعة ذلك الوعيد تجعل المقام مقام استدلال على أنهم محقوقون بوجوب النظر في دلائل الوحدانية التي هي أصل الاهتداء إلى تصديق ما أخبرهم به القرآن من البعث والجزاء، وإلى الاهتداء إلى أن منشئ النشأة الأولى عن عدم بما فيها من عظيم الموجودات كالجبال والسماء، لا يُستبعد في جانب قدرته إعادة إنشاء الإِنسان بعد فنائه عن عدم، وهو دون تلك الموجودات العظيمة الأحجام، فكانَ إعراضهم عن النظر مجلبة لما يجشمهم من الشقاوة وما وقع بين هذا التفريع، وبين المفرع عنه من جملة‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ ناعمة‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 8‏]‏ كانَ في موقع الاعتراض كما علمت‏.‏

فضمير ‏{‏ينظرون‏}‏ عائد إلى معلوم من سياق الكلام‏.‏

والهمزة للاستفهام الإِنكاري إنكاراً عليهم إهمال النظر في الحال إلى دقائق صنع الله في بعض مخلوقاته‏.‏

والنظر‏:‏ نظر العين المفيد الاعتبار بدقائق المنظور، وتعديته بحرف ‏(‏إلى‏)‏ تنبيه على إمعان النظر ليشعر الناظر مما في المنظور من الدقائق، فإن قولهم نظر إلى كذا أشد في توجيه النظر من نظر كذا، لما في ‏(‏إلى‏)‏ من معنى الانتهاء حتى كأنَّ النظر انتهى عند المجرور ب ‏(‏إلى‏)‏ انتهاءَ تمكن واستقرارٍ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 19‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إلى ربها ناظرة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ولزيادة التنبيه على إنكار هذا الإِهمال قُيّد فعل ‏{‏ينظرون‏}‏ بالكيفيات المعدودة في قوله‏:‏ ‏{‏كيف خلقت‏}‏، ‏{‏كيف رفعت‏}‏، ‏{‏كيف نصبت‏}‏، ‏{‏كيف سطحت‏}‏ أي لم ينظروا إلى دقائق هيئات خَلقها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏كيف خلقت‏}‏ بدل اشتمال من الإِبل والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو فعل ‏{‏ينظرون‏}‏ لاَ حرف الجر، فإن حرف الجر آلة لتعدية الفعل إلى مفعوله فالفعل إن احتاج إلى حرف الجر في التعدية إلى المفعول لا يحتاج إليه في العمل في البدل، وشتان بين ما يقتضيه إعمال المتبوع وما يقتضيه إعمال التابع فكلٌّ على ما يقتضيه معناه وموقعه، فكيف منصوب على الحال بالفعل الذي يليه‏.‏

والمعنى والتقديرُ‏:‏ أفلا ينظرون إلى الإِبللِ هيئةِ خَلْقِها‏.‏

وقد عُدّت أشياءُ أربعة هي من النَّاظرين عن كَثب لا تغيب عن أنظارهم، وعُطف بعضها على بعض، فكان اشتراكها في مرْآهم جهةً جامعة بينها بالنسبة إليهم، فإنهم المقصودون بهذا الإِنكار والتوبيخ، فالذي حسَّن اقتران الإِبل مع السماء والجبال والأرض في الذكر هنا، هو أنها تنتظم في نظر جمهور العرب من أهل تهامة والحجاز ونجد وأمثالها من بلاد أهل الوبر والانتجاع‏.‏

فالإبل أموالهم ورواحلهم، ومنها عيشهم ولباسهم ونسج بيوتهم وهي حمّالة أثقالهم، وقد خلقها الله خلقاً عجيباً بقوة قوائمها ويُسْر بُروكها لتيسير حمل الأمتعة عليها، وجَعَل أعناقها طويلة قوية ليمكنها النهوض بما عليها من الأثقال بعد تحميلها أو بعد استراحتها في المنازل والمبارك، وجعل في بطونها أمعاء تختزن الطعام والماء بحيث تصبر على العطش إلى عشرة أيام في السير في المفاوز مما يَهلك فيما دونه غيرها من الحيوان‏.‏

وكم قد جرى ذكر الرواحل وصفاتها وحمدها في شعر العرب ولا تكاد تخلو قصيدة من طِوالهم عن وصف الرواحل ومزاياها‏.‏ وناهيك بما في المعلقات وما في قصيدة كعب بن زهير‏.‏

و ‏{‏الإِبل‏}‏‏:‏ اسم جمع للبُعران لا واحد له من لفظه، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏146‏)‏‏.‏

وعن المبرد أنه فسر الإِبل في هذه الآية بالأسحبة وتأوَّله الزمخشري بأنه لم يرد أن الإِبل من أسماء السحاب ولكنه أراد أنه من قبيل التشبيه، أي هو على نحو قول عنترة‏:‏

جادت عليه كل بِكر حرّة *** فتركن كل قرارة كالدرهم

ونُقل بهم إلى التدبر في عظيم خلق السماء إذ هم ينظرونها نهارهم وليلهم في إقامتهم وظعنهم، يرقبون أنواء المطر ويشيمون لمع البروق، فقد عرف العرب بأنهم بنو ماء السماء، قال زيادة الحارثي ‏(‏على تردد لشراح الحماسة في تأويل قوله، بنو ماء السماء‏)‏‏:‏

ونَحن بنو ماء السماء فلا نَرى *** لأنفسنا من دون مملكة قَصر

وفي كلام أبي هريرة وقد ذكر قصة هَاجَر فقال أبو هريرة في آخرها‏:‏ إنها لأمّكم يا بني ماء السماء ويتعرفون من النجوم ومنازل الشمس أوقات الليل والنهار ووجهة السير‏.‏

وأتبع ذكر السماء بذكر الجبال وكانت الجبال منازل لكثير منهم مثل جَبَلَي أجإ وسلمى لطَي‏.‏ وينزلون سفوحها ليكونوا أقرب إلى الاعتصام بها عند الخوف ويتخذون فيها مراقب للحراسة‏.‏

والنصْب‏:‏ الرفع أي كيف رُفعت وهي مع ارتفاعها ثابتة راسخة لا تميل‏.‏

وثم نُزِل بأنظارهم إلى الأرض وهي تحت أقدامهم وهي مرعاهم ومفترشهم، وقد سَطَحها الله، أي خلقها ممهدة للمشي والجلوس والاضطجاع‏.‏ ومعنى سُطحت‏}‏‏:‏ سُويت يقال‏:‏ سَطَح الشيء إذا سوّاه ومنه سَطْح الدار‏.‏

والمراد بالأرض أرض كل قوم لا مجموع الكرة الأرضية‏.‏

وبُنيت الأفعال الأربعة إلى المجهول للعلم بفاعل ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ‏(‏21‏)‏ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ‏(‏22‏)‏ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ‏(‏23‏)‏ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

الفاء فصيحةُ تفريع على محصَّل ما سبق من أول السورة الذي هو التذكير بالغاشية وما اتصل به من ذكر إعراضهم وإنذارهم، رتب على ذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدوام على تذكيرهم وأنه لا يؤيسه إصرارهم على الإعراض وعدم ادكارهم بما ألقى إليهم من المواعظ، وتثبيته بأنه لا تبعة عليه من عدم إصغائهم إذ لم يُبعث مُلجئاً لهم على الإِيمان‏.‏

فالأمر مستعمل في طلب الاستمرارِ والدوام‏.‏

ومفعول «ذَكِّرْ» محذوف هو ضمير يدل عليه قوله بعده ‏{‏لست عليهم بمصيطر‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏إنما أنت مذكر‏}‏ تعليل للأمر بالدوام على التذكير مع عدم إصغائهم لأن ‏{‏إنما‏}‏ مركبة من ‏(‏أنَّ‏)‏ و‏(‏ما‏)‏ وشأنُ ‏(‏إنَّ‏)‏ إذا وردت بعد جملة أن تفيد التعليل وتغني غَناء فاء التسبب، واتصال ‏(‏ما‏)‏ الكافة بها لا يخرجها عن مهيعها‏.‏

والقصر المستفاد ب ‏{‏إنما‏}‏ قصر إضافي، أي أنت مذكر لست وكيلاً على تحصيل تذكرهم فلا تتحرج من عدم تذكرهم فأنت غير مقصر في تذكيرهم وهذا تطمين لنفسه الزكية‏.‏

وجملة ‏{‏لست عليهم بمصيطر‏}‏ بدل اشتمال من جملة القصر باعتبار جانب النفي الذي يفيده القصر‏.‏

والمصيطر‏:‏ المُجْبِر المُكْرِه‏.‏

يقال‏:‏ صيطر بصاد في أوله، ويقال‏:‏ سيطر بسين في أوله والأشهر بالصاد‏.‏ وتقدم في سورة الطور ‏(‏37‏)‏‏:‏ ‏{‏أم هم المصيطرون‏}‏ وقرأ بها الجمهور وقرأ هشام عن ابن عامر بالسين وقرأه حمزة بإشمام الصاد صوت الزاي‏.‏

ونفي كونه مصيطراً عليهم خبر مستعمل في غير الإِخبار لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لم يكلف بإكراههم على الإِيمان، فالخبر بهذا النفي مستعمل كناية عن التطمين برفع التبعة عنه من جراء استمرار أكثرهم على الكفر، فلا نسخ لحكم هذه الآية بآيات الأمر بقتالهم‏.‏

ثم جاء وجوب القتال بتسلسل حوادث كان المشركون هم البادئين فيها بالعدوان على المسلمين إذ أخرجوهم من ديارهم، فشرع قتال المشركين لخضد شوكتهم وتأمين المسلمين من طغيانهم‏.‏

ومن الجهلة من يضع قوله‏:‏ ‏{‏لست عليهم بمصيطر‏}‏ في غير موضعه ويحيد به عن مهيعه فيريد أن يتخذه حجة على حرية التدين بين جماعات المسلمين‏.‏ وشتان بين أحوال أهل الشرك وأحوال جامعة المسلمين‏.‏ فمن يلحد في الإسلام بعد الدخول فيه يستتاب ثلاثاً فإن لم يتب قتل، وإن لم يُقدَر عليه فَعَلَى المسلمين أن ينبذوه من جامعتهم ويعاملوه معاملة المحارب‏.‏ وكذلك من جاء بقول أو عمل يقتضي نبذ الإسلام أو إنكار ما هو من أصول الدين بالضرورة بعد أن يوقف على مآل قوله أو عمله فيلتزمه ولا يتأوله بتأويل مقبول ويأبى الانكفاف‏.‏

وتقديم ‏{‏عليهم‏}‏ على متعلقه وهو «مسيطر» للرعاية على الفاصلة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر‏}‏ معترض بين جملة ‏{‏لست عليهم بمصيطر‏}‏ وجملة‏:‏ ‏{‏إن إلينا إيابهم‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 25‏]‏ والمقصود من هذا الاعتراض الاحتراس من توهمهم أنهم أصبحوا آمنين من المؤاخذة على عدم التذكر‏.‏

فحرف ‏{‏إلا‏}‏ للاستثناء المنقطع وهو بمعنى الاستدراك‏.‏

والمعنى‏:‏ لكن من تولى عن التذكر ودام على كفره يعذبه الله العذاب الشديد‏.‏

ودخلت الفاء في الخبر وهو ‏{‏فيعذبه اللَّه‏}‏ إذ كان الكلام استدراكاً وكان المبتدأ موصولاً فأشبه بموقعه وبعمومه الشروط فأدخلت الفاء في جوابه ومثله كثير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين قاتلوا في سبيل اللَّه فلن يضل أعمالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ و‏{‏الأكبر‏}‏‏:‏ مستعار للقوى المتجاوز حدّ أنواعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ‏(‏26‏)‏‏}‏

تعليل لجملة‏:‏ ‏{‏لست عليهم بمصيطر‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 22‏]‏، أي لست مكلفاً بجبرهم على التذكر والإِيمان لأنا نحاسبهم حين رجوعهم إلينا في دار البقاء‏.‏ وقد جاء حرف ‏{‏إنَّ‏}‏ على استعماله المشهور، إذا جيء به لمجرد الاهتمام دونَ ردّ إنكار، فإنه يفيد مع ذلك تعليلاً وتسبباً كما تقدم غير مرة، وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏إنك أنت العليم الحكيم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏32‏)‏‏.‏

والإِياب‏:‏ بتخفيف الياء الأوب، أي الرجوع إلى المكان الذي صدر عنه‏.‏ أطلق على الحضور في حضرة القُدس يوم الحشر تشبيهاً له بالرجوع إلى المكان الذي خرج منه بملاحظة أن الله خالقُ الناس خلْقَهم الأول، فشبهت إعادة خلقهم وإحضارهم لديه برجوع المسافر إلى مقره كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27، 28‏]‏‏.‏

وتقديم خبر ‏{‏إنَّ‏}‏ على اسمها يظهر أنه لمجرد الاهتمام تحقيقاً لهذا الرجوع لأنهم ينكرونه، وتنبيهاً على إمكانه بأنه رجوع إلى الذي أنشأهم أول مرة‏.‏

ونُقل الكلام من أسلوب الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏فيعذبه اللَّه‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 24‏]‏ إلى أسلوب التكلم بقوله‏:‏ ‏{‏إلينا‏}‏ على طريقة الالتفات‏.‏

وقرأ أبو جعفر ‏{‏إيَّابهم‏}‏ بتشديد الياء‏.‏ فعن ابن جني هو مصدر على وزن فِيعَال مصدر‏:‏ ايَّب بوزن فَيْعَل من الأوب مثل حَوْقَل‏.‏ فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فقيل‏:‏ إيَّاب‏.‏

وعطفت جملة‏:‏ ‏{‏إن علينا حسابهم‏}‏ بحرف ‏{‏ثم‏}‏ لإفادة التراخي الرتبي فإن حسابهم هو الغرض من إيَابهم وهو أوقع في تهديدهم على التولي‏.‏

ومعنى ‏(‏على‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏علينا حسابهم‏}‏ أن حسابهم لتأكده في حكمة الله يشبه الحق الذي فرضه الله على نفسه‏.‏

وهذه الجملة هي المقصود من التعليل التي قبلها بمعنى التمهيد لها والإِدماج لإِثبات البعث‏.‏ وفي ذلك إيذان بأن تأخير عقابهم إمهال فلا يحسبُوه انفلاتاً من العقاب‏.‏

سورة الفجر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏وَالْفَجْرِ ‏(‏1‏)‏ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ‏(‏2‏)‏ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

القَسَم بهذه الأزمان من حيث إن بعضها دلائل بديع صنع الله وسعةِ قدرته فيما أوجد من نظام يُظاهر بعضه بعضاً من ذلك وقتَ الفجر الجامع بين انتهاء ظلمة الليل وابتداء نور النهار، ووقت الليل الذي تمحضت فيه الظلمة‏.‏ وهي مع ذلك أوقات لأفعال من البر وعبادةِ الله وحده، مثل الليالي العشر، والليالي الشفع، والليالي الوتر‏.‏

والمقصود من هذا القَسَم تحقيق المقسم عليه لأن القسم في الكلام من طرق تأكيد الخبر إذ القسم إشهاد المُقسِم ربه على ما تضمنه كلامه‏.‏

وقسم الله تعالى متمحض لقصد التأكيد‏.‏

والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بعاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 6‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 14‏]‏‏.‏

ولذلك فالقسم تعريض بتحقيق حصول المقسم عليه بالنسبة للمنكرين‏.‏

والمقصد من تطويل القسم بأشياء، التشويقُ إلى المقسم عليه‏.‏

و ‏{‏الفجر‏}‏‏:‏ اسم لوقتتِ ابتداء الضياء في أقصى المشرق من أوائل شعاع الشمس حين يتزحزح الإِظلام عن أول خط يلوح للناظرِ مِنَ الخطوط الفرضية المعروفةِ في تخطيط الكرة الأرضية في الجغرافيا ثم يمتد فيضيء الأفق ثم تظهر الشمس عند الشروق وهو مظهر عظيم من مظاهر القدرة الإلهية وبديع الصنع‏.‏

فالفجر ابتداء ظهور النور بعد ما تأخذ ظلمة الليل في الإِنصرام وهو وقت مبارك للناس إذ عنده تنتَهي الحالة الداعية إلى النوم الذي هو شبيه الموت؛ ويأخذ الناس في ارتجاع شعورهم وإقبالهم على ما يألفونه من أعمالهم النافعة لهم‏.‏

فالتعريف في ‏{‏الفجر‏}‏ تعريف الجنس وهو الأظهر لمناسبة عطف ‏{‏والليل إذا يسر‏}‏‏.‏

ويجوز أن يراد فجر معين‏:‏ فقيل أريد وقت صلاة الصبح من كل يوم وهو عن قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ فجر يوم النحر وهو الفجر الذي يكون فيه الحجيج بالمزدلفة وهذا عن ابن عباس وعطاء وعكرمة، فيكون تعريف ‏{‏الفجر‏}‏ تعريف العهد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وليال عشر‏}‏‏:‏ هي ليال معلومة للسامعين موصوفة بأنها عشر واستُغني عن تعريفها بتوصيفها بعشر وإذ قد وصفت بها العدد تعين أنها عشر متتابعة وعدل عن تعريفها مع أنها معروفة ليتوصل بترْك التعريف إلى تنوينها المفيد للتعظيم وليس في ليالي السَّنة عشرُ ليال متتابعة عظيمة مثل عشر ذي الحجّة التي هي وقتُ مناسك الحج، ففيها يكون الإِحرام ودخول مكة وأعمال الطواف، وفي ثامنتها ليلة التروية، وتاسعتها ليلة عرفة وعاشرتها ليلة النحر‏.‏ فتعين أنها الليالي المرادة بليال عشر‏.‏ وهو قول ابن عباس وابن الزبير، وروى أحمد والنسائي عن أبي الزبير ‏(‏المكي‏)‏ عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن العشر عشر الأضحى» قال ابن العربي‏:‏ ولم يصح وقال ابن عساكر‏:‏ رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة اه‏.‏

ومناسبة عطف ‏{‏ليال عشر‏}‏ على ‏{‏الفجر‏}‏ أن الفجر وقت انتهاء الليل، فبينه وبين الليل جامع المضادة، والليل مظهر من مظاهر القدرة الإلهية فلما أريد عطفه على الفجر بقوله‏:‏ ‏{‏والليل إذا يسر‏}‏ خصت قبل ذكره بالذكرِ ليال مباركة إذ هي من أفراد الليل‏.‏

وكانت الليالي العشر معينة من الله تعالى في شرع إبراهيم عليه السلام ثم غيرت مواقيتها بما أدخله أهل الجاهلية على السَّنة القمرية من النسيء فاضطربت السنين المقدسة التي أمر الله بها إبراهيم عليه السلام‏.‏ ولا يُعرف متى بدأ ذلك الاضطراب، ولا مقاديرُ ما أدخل عليها من النسيء، ولا ما يضبط أيام النسيء في كل عام لاختلاف اصطلاحهم في ذلك وعدم ضبطه فبذلك يتعذر تعيين الليالي العشر المأمور بها من جانب الله تعالى، ولكننا نوقن بوجودها في خلال السنة إلى أن أوحى الله إلى نبيئه محمد صلى الله عليه وسلم في سنة عشر من الهجرة عام حجة الوداع، بأن أشهر الحج في تلك السنة وافقت ما كانت عليه السنةُ في عهد إبراهيم عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع‏:‏ ‏"‏ إن الزمان قد استدار كهيئته يومَ خلق الله السماوات والأرض ‏"‏‏.‏

وهذا التغيير لا يرفع بركة الأيام الجارية فيها المناسك قبل حجة الوداع لأن الله عظمها لأجل ما يقع فيها من مناسك الحج إذ هو عبادة لله خاصة‏.‏

فأوقات العبادات تعيين لإِيقاع العبادة فلا شك أن للوقت المعين لإيقاعها حكمة علمها الله تعالى ولذلك غلب في عبارات الفقهاء وأهل الأصول إطلاقُ اسم السبب على الوقت لأنهم يريدون بالسبب المعرّف بالحكم ولا يريدون به نفسَ الحِكمة‏.‏

وتعيين الأوقات للعبادات مما انفرد الله به، فلأوقات العبادات حرمات بالجعل الرباني، ولكن إذا اختلت أو اختلطت لم يكن اختلالها أو اختلاطها بقاض بسقوط العبادات المعينة لها‏.‏

فقسمُ اللَّه تعالى بالليالي العشر في هذه مما نزل بمكة قسم بما في علمه من تعيينها في علمه‏.‏

و ‏{‏الشفع‏}‏‏:‏ ما يكون ثانياً لغيره، و‏{‏الوَتْر‏}‏‏:‏ الشيء المفرد، وهما صفتان لمحذوف، فعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفع يوم النحر ذلك لأنه عاشر ذي الحجة ومناسبة الابتداء بالشفع أنه اليوم العاشر فناسب قوله‏:‏ ‏{‏وليال عشر‏}‏، وأن الوتر يوم عرفة رواه أحمد بن حنبل والنسائي وقد تقدم آنفاً، وعلى هذا التفسير فذكر الشفع والوتر تخصيص لهذين اليومين بالذكر للاهتمام، بعد شمول الليالي العشر لهما‏.‏

وفي «جامع الترمذي» عن عِمران بن حُصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الشفع والوتر والصلاةُ منها شفع ومنها وتر ‏"‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ وهو حديث غريب وفي «العارضة أن في سنده مجهولاً، قال ابن كثير‏:‏ «وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه»‏.‏

وينبغي حمل الآية على كلا التفسيرين‏.‏

وقيل‏:‏ الشفع يومان بعد يوم منَى، والوتر اليوم الثالث وهي الأيام المعدودات فتكون غيرَ الليالي العشر‏.‏

وتنكير ‏{‏ليال‏}‏ وتعريف ‏{‏الشفع والوتر‏}‏ مشير إلى أن الليالي العشر ليال معينة وهي عشر ليال في كل عام، وتعريف ‏{‏الشفع والوتر‏}‏ يؤذن بأنهما معروفان وبأنهما الشفع والوتر من الليالي العشر‏.‏

وفي تفسير ‏{‏الشفع والوتر‏}‏ أقوال ثمانيةَ عشر وبعضها متداخل استقصاها القرطبي، وأكثرها لا يَحسن حمل الآية عليه إذ ليست فيها مناسبة للعطف على ليال عشر‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏والوتر‏}‏ بفتح الواو وهي لغة قريش وأهل الحجاز‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بكسر الواو وهي لغة تميم وبَكر بن سَعْد بن بكر وهم بنو سعد أظآر النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل العالية، فهما لغتان في الوتر‏.‏ بمعنى الفرد‏.‏

و ‏{‏الليل‏}‏ عطف على ‏{‏ليالي عشر‏}‏ عطف الأعم على الأخص أو عطف على ‏{‏الفجر‏}‏ بجامع التضاد‏.‏ وأقسم به لما أنه مظهر من مظاهر قدرة الله وبديع حكمته‏.‏

ومعنى يسري‏:‏ يمضي سائراً في الظلام، أي إذا انقضى منه جزء كثير، شُبه تقضي الليل في ظلامه بسير السائر في الظلام وهو السُّرى كما شبه في قوله‏:‏ ‏{‏والليل إذ أدبر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 33‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏والليل إذا سجى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 2‏]‏، أي تمكن ظلامه واشتد‏.‏

وتقييد ‏{‏الليل‏}‏ بظرف ‏{‏إذا يسر‏}‏ لأنه وقت تمكن ظلمة الليل فحينئذ يكون الناس أخذوا حظهم من النوم فاستطاعوا التهجد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 6‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ومن الليل فاسجد له وسبحه‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب‏:‏ ‏{‏إذا يسري‏}‏ بياء بعد الراء في الوصل على الأصل وبحذفها في الوقف لرعي بقية الفواصل‏:‏ «الفجر، عشر، والوتر، حجر» ففواصل القرآن كالأسجاع في النثر والأسجاعُ تعامل معاملة القوافي، قال أبو علي‏:‏ وليس إثباتُ الياء في الوقف بأحسن من الحذف، وجميع ما لا يحذف وما يُختار فيه أن لا يحذف ‏(‏نحو القاض بالألف واللام‏)‏ يُحذف إذا كان في قافيةٍ أو فاصلة فإن لم تكن فاصلة فالأحسن إثبات الياء‏.‏ وقرأ ابن كثير ويعقوب بثبوت الياء بعد الراء في الوصل وفي الوقف على الأصل‏.‏

وقرأ الباقون بدون ياء وصْلاً ووقفاً، وهذه الرواية يوافقها رسم المصحف إياها بدون ياء، والذين أثبتوا الياء في الوصل والوقف اعتمدوا الرواية واعتبروا رسم المصحف سُنَّة أو اعتداداً بأن الرسم يكون باعتبار حالة الوقف‏.‏

وأما نافع وأبو عمرو وأبو جعفر فلا يُوهن رسمُ المصحف روايتهم لأن رسم المصحف جاء على مراعاة حال الوقف ومُراعاةُ الوقف تكثر في كيفيات الرسم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

جملة معترضة بين القَسم وما بعده من جوابه أو دليل جوابه، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه لقسم لو تعلمون عظيم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 76‏]‏‏.‏

والاستفهام تقريري، وكونه بحرف ‏{‏هل‏}‏ لأن أصل ‏{‏هل‏}‏ أن تدل على التحقيق إذ هي بمعنى ‏(‏قد‏)‏‏.‏

واسم الإشارة عائد إلى المذكور مما أقسم به، أي هل في القسم بذلك قَسم‏.‏

وتنكير ‏{‏قسمَ‏}‏ للتعظيم أي قسم كاففٍ ومُقنع للمُقْسم له‏.‏ إذا كان عاقلاً أن يتدبر بعقله‏.‏

فالمعنى‏:‏ هل في ذلك تحقيق لما أُقسم عليه للسامع الموصوف بأنه صاحب حِجر‏.‏

والحِجْر‏:‏ العقل لأنه يَحجرُ صاحبه عن ارتكاب ما لا ينبغي، كما سمي عقلاً لأنه يعْقِل صاحبه عن التهافت كما يعقِل العِقال البعيرَ عن الضَّلال‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لذي حجر‏}‏ لام التعليل، أي قَسَم لأجل ذي عقل يمنعه من المكابرة فيعلم أن المقسم بهذا القَسَم صادق فيما أقسم عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 14‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ‏(‏6‏)‏ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ‏(‏7‏)‏ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ‏(‏8‏)‏ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ‏(‏9‏)‏ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ‏(‏11‏)‏ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ‏(‏12‏)‏ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ‏(‏13‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

لا يصلح هذا أن يكون جواباً للقسم ولكنه‏:‏ إمَّا دليلُ الجواب إذ يدل على أن المقسَم عليه من جنس ما فُعِل بهذه الأمم الثلاث وهو الاستئصال الدال عليه قوله‏:‏ ‏{‏فصب عليهم ربك سوط عذاب‏}‏، فتقدير الجواب ليصبن ربك على مكذبيك سوط عذاب كما صب على عاد وثمود وفرعون‏.‏

وإمّا تمهيد للجواب ومقدمة له إن جعلت الجواب قوله‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ وما بينه وبين الآيات السابقة اعتراض جعل كمقدمة لجواب القسم‏.‏

والمعنى‏:‏ إن ربك لبالمرصاد للمكذبين لا يخفى عليه أمرهم، فيكون تثبيتاً للنبيء صلى الله عليه وسلم كقوله‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن اللَّه غافلاً عما يعمل الظالمون‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏‏.‏

فالاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ تقريري، والمخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم تثبيتاً له ووعداً بالنصر، وتعريضاً للمعاندين بالإِنذار بمثله فإن ما فُعل بهذه الأمم الثلاث موعظة وإنذار للقوم الذين فَعَلوا مثل فعلهم من تكذيب رسل الله قُصد منه تقريب وقوع ذلك وتوقع حلوله‏.‏ لأن التذكير بالنظائر واستحضَار الأمثال يقرِّب إلى الأذهاننِ الأمر الغريب الوقوع، لأن بُعد العهد بحدوث أمثاله ينسيه الناسَ، وإذا نُسي استبعَد الناسُ وقوعه، فالتذكير يزيل الاستبعاد‏.‏

فهذه العِبَر جزئيات من مضمون جواب القسم، فإن كان محذوفاً فذِكْرُها دليلُه، وإن كان الجواب قوله‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ كان تقديمها على الجواب زيادة في التشويق إلى تلقيه، وإيذاناً بجنس الجواب من قَبْل ذكره ليحصل بعد ذكره مزيد تقرُّره في الأذهان‏.‏

والرؤيَةُ في ‏{‏ألم تر‏}‏ يجوز أن تكون رؤية عِلْمية تشبيهاً للعلم اليقيني بالرؤية في الوضوح والانكشاف لأن أخبار هذه الأمم شائعة مضروبة بها المُثُل فكأنها مشاهدة‏.‏ فتكون ‏{‏كيف‏}‏ استفهاماً معلِّقاً فعل الرؤية عن العمل في مفعولين‏.‏

ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمعنى‏:‏ ألم تر آثار ما فعل ربك بعاد، وتكون ‏{‏كيف‏}‏ إسْماً مجرّداً عن الاستفهام في محل نصب على المفعولية لفعل الرؤية البصرية‏.‏

وعُدل عن اسم الجلالة إلى التعريف بإضافة رب إلى ضمير المخاطب في قوله‏:‏ ‏{‏فعل ربك‏}‏ لِما في وصف رب من الإِشعار بالولاية والتأييد ولما تؤذن به إضافته إلى ضمير المخاطب من إعزازه وتشريفه‏.‏

وقد ابتُدئت الموعظة بذكر عاد وثمود لشهرتهما بين المخاطبين وذُكِرَ بعدهما قوم فرعون لشهرة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون بين أهل الكتاب ببلاد العرب وهم يحدِّثون العرب عنها‏.‏

وأريد ب«عاد» الأمة لا محالة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 59‏]‏ فوَجْه صرفه أنه اسم ثلاثي ساكن الوسط مثللِ هِند ونُوح وإرَم بكسر الهمزة وفتح الراء اسم إرَم بن سَامٍ بن نُوح وهو جد عاد لأن عاداً هو ابن عُوص بن إرَم، وهو ممنوع من الصرف للعجمة لأن العرب البائدة يُعتبرون خارجين عن أسماء اللغة العربية المستعملة، فهو عطف بيان ل«عاد» للإِشارة إلى أن المراد ب«عاد» القبيلة التي جدها الأدنى هو عاد بن عوص بن إرم، وهم عاد الموصوفة ب ‏{‏الأولى‏}‏ في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وأنه أهلك عاداً الأولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50‏]‏ لئلا يتوهم أن المتحدَّثَ عنهم قبيلة أخرى تسمى عاداً أيضاً‏.‏ كانت تنزل مكة مع العَمَاليق يقال‏:‏ إنهم بقية من عاد الأولى فعاد وإرم اسمان لقبيلة عاد الأولى‏.‏

ووُصِفَتْ عادٌ ب ‏{‏ذات العماد‏}‏، و‏{‏ذاتُ‏}‏ وصْف مؤنث لأن المراد بعاد القبيلة‏.‏

والعمادُ‏:‏ عُود غليظ طويلٌ يُقام عليه البيت يركز في الأرض تقام عليه أثواب الخيمة أو القبة ويسمى دَعامةً، وهو هنا مستعار للقوة تشبيهاً للقبيلة القوية بالبيت ذات العماد‏.‏

وإطلاق العِماد على القوة جاء في قول عمرو بن كلثوم‏:‏

ونَحن إذا عِمَادُ الحَيِّ خَرَّت *** على الأحْفاض نَمنع من يَلِينا

ويجوز أن يكون المراد ب ‏{‏العماد‏}‏ الأعلام التي بنوْها في طرُقهم ليهتدي بها المسافرون المذكورةَ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتبنون بكل ريع آية تعبثون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 128‏]‏‏.‏

ووُصفت عاد ب ‏{‏ذات العماد‏}‏ لقوتها وشدتها، أي قد أهلك الله قوماً هم أشد من القوم الذين كذبوك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 13‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 21‏]‏‏.‏

و ‏{‏التي‏}‏‏:‏ صادق على «عاد» بتأويل القبيلة كما وصفت ب ‏{‏ذات العماد‏}‏ والعرب يقولون‏:‏ تَغلِبُ ابنةُ وائل، بتأويل تغلب بالقبيلة‏.‏

و ‏{‏البلاد‏}‏‏:‏ جمعَ بَلَد وبلْدة وهي مساحة واسعة من الأرض معيَّنة بحدود أو سكان‏.‏

والتعريف في ‏{‏البلاد‏}‏ للجنس والمعنى‏:‏ التي لم يخلق مثل تلك الأمة في الأرض‏.‏ وأريد بالخلق خلق أجسادهم فقد رُوي أنهم كانوا طِوالاً شداداً أقوياء، وكانوا أهل عقل وتدبير، والعرب تضرب المثل بأحلام عاد، ثم فسدت طباعهم بالترف فبطروا النعمة‏.‏

والظاهر أن لام التعريف هنا للاستغراق العُرفي، أي في بلدان العرب وقبائلهم‏.‏

وقد وضع القصاصون حول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إرم ذات العماد‏}‏ قصةً مكذوبة فزعموا أن ‏{‏إرم ذات العماد‏}‏ مركب جعل اسماً لمدينة باليَمن أو بالشام أو بمصر، ووصفوا قصورها وبساتينها بأوصاف غير معتادة، وتقوَّلوا أن أعرابياً يقال له‏:‏ عبدُ الله بن قلابة كان في زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان تاهَ في ابتغاء إبِللٍ له فاطَّلع على هذه المدينة وأنه لما رجع أخبر الناس فذهبوا إلى المكان الذي زعم أنه وجَد فيه المدينة فلم يجدوا شيئاً‏.‏ وهذه أكاذيب مخلوطة بجهالة إذ كيف يصح أن يكون اسمَها أرم ويتبع بذاتتِ العماد بفتح ‏{‏إرَمَ‏}‏ وكسر ‏{‏ذاتِ‏}‏ فلو كان الاسم مركباً مَزْجياً لكان بناء جزأيْه على الفتح، وإن كان الاسم مفرداً و‏{‏ذات‏}‏ صفة له فلا وجه لكسر ‏{‏ذات‏}‏، على أن موقع هذا الاسم عقب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعاد‏}‏ يناكد ذلك كله‏.‏

ومُنع ‏{‏ثمود‏}‏ من الصرف لأن المراد به الأمة المعروفة، ووصف باسم الموصول لجمع المذكّر في قوله‏:‏ ‏{‏الذين جابوا‏}‏ دون أن يقول التي جابت الصخر بتأويل القوم فلما وُصف عدل عن تأنيثه تفنناً في الأسلوب‏.‏

ومعنى ‏{‏جابوا‏}‏‏:‏ قطعوا، أي نَحتوا الصخر واتخذوا فيه بيوتاً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتنحتون من الجبال بيوتاً‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 149‏]‏ وقد قيل‏:‏ إن ثمود أول أمم البشر نحتوا الصخر والرخام‏.‏

و ‏{‏الصخر‏}‏‏:‏ الحجارة العظيمة‏.‏

والواد‏:‏ اسم لأرض كائنةٍ بين جبلين منخفضة، ومنه سمي مجرى الماء الكثير واداً وفيه لغتان‏:‏ أن يكون آخره دَالاً، وأن يكون آخره ياء ساكنةً بعد الدال‏.‏

وقرأ الجمهور بدون ياء‏.‏ وقرأه ابن كثير ويعقوب بياء في آخره وصلا ووقفاً، وقرأه ورش عن نافع بياء في الوصل وبدونها في الوقف وهي قراءة مبنية على مراعاة الفواصل مثل ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إذا يسر‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 4‏]‏ وهو مرسوم في المصحف بدون ياء والقراءات تعتمد الرواية بالسمع لا رسم المصحف إذ المقصود من كتابة المصاحف أن يتذكر بها الحفاظ ما عسى أن ينسَوْه‏.‏

والواد‏:‏ علَم بالغلبة على منازل ثمود، ويقال له‏:‏ وادي القُرى، بإضافته إلى «القرى» التي بنتها ثمود فيه ويسمى أيضاً «الحِجر» بكسر الحاء وسكون الجيم، ويقال لها‏:‏ «حِجر ثمود» وهو واد بين خيبر وتَيْماء في طريق الماشي من المدينة إلى الشام، ونزله اليهود بعد ثمود لما نزلوا بلادَ العرب، ونزله من قبائل العرب قُضاعة وجهينة، وعُذرة وبَليٌّ‏.‏

وكان غزاه النبي صلى الله عليه وسلم وفتحه سنة سبع فأسلم من فيه من العرب وصُولحت اليهود على جِزْيَةٍ‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالواد‏}‏ للظرفية‏.‏

والمراد ب ‏{‏فرعون‏}‏ هو وقومه‏.‏

ووصف ‏{‏ذي الأوتاد‏}‏ لأن مملكته كانت تحتوي على الأهرام التي بناها أسلافه لأن صورة الهرم على الأرض تشبه الوتد المدقوق، ويجوز أن يكون الأوتاد مستعاراً للتمكن والثبات، أي ذي القوة على نحو قوله‏:‏ ‏{‏ذات العماد‏}‏، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذُو الأوتاد‏}‏ في ص ‏(‏12‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ الذين طغوا في البلاد‏}‏ يجوز أن يكون شاملاً لجميع المذكورين عاد وثمود وفرعون‏.‏ ويجوز أن يكون نعتاً لفرعون لأن المراد هو وقومه‏.‏

والطغيان شدّة العصيان والظلم ومعنى طغيانهم في البلاد أن كل أمة من هؤلاء طَغوا في بلدهم؛ ولما كان بلدهم من جملة البلاد أي أرضي الأقوام كان طغيانهم في بلدهم قد أوقع الطغيان في البلاد لأن فساد البعض آئل إلى فساد الجميع بسَنِّ سنن السوء، ولذلك تسبب عليه ما فرع عنه من قوله‏:‏ ‏{‏فأكثروا فيها الفساد‏}‏ لأن الطغيان يجرِّئ صاحبه على دحض حقوق الناس فهو من جهة يكون قدوة سُوءٍ لأمثاله ومَلئهِ، فكل واحد منهم يطغى على من هو دونه، وذلك فساد عظيم، لأن به اختلال الشرائع الإلاهيّة والقوانين الوضعية الصالحة وهو من جهة أخرى يثير الحفائظ والضغائن في المطْغيّ عليه من الرعية فيُضمرون السوء للطاغين وتنطوي نفوسهم على كراهية ولاة الأمور وتربص الدوائر بها فيكونُون لها أعداء غير مخلصي الضمائر ويكون رجال الدولة متوجّسين منهم خيفة فيظنون بهم السوء في كل حال ويحْذَرُونهم فتتوزع قوة الأمة على أفرادها عوض أن تتّحد على أعدائها فتصبح للأمة أعداء في الخارج وأعداء في الداخل وذلك يفضي إلى فساد عظيم، فلا جرم كان الطغيان سبباً لكثرة الفساد‏.‏

ويجوز أن يكون التعريف في ‏{‏البلاد‏}‏ تعريف العهد، أي في بلادهم والجمع على اعتبار التوزيع، أي طغت كل أمة في بلادها‏.‏

و ‏{‏الفساد‏}‏‏:‏ سوء حال الشيء ولحاق الضر به قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏‏.‏ وضد الفساد الصلاح قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏ وكان ما أكثروه من الفساد سبباً في غضب الله عليهم، والله لا يحب الفساد فصب عليهم العذاب‏.‏

والصب حقيقته‏:‏ إفراغ ما في الظرف، وهو هنا مستعار لحلول العذاب دَفعة وإحاطته بهم كما يصب الماء على المغتَسِل أو يصب المطر على الأرض، فوجه الشبه مركب من السرعة والكثرة ونظيره استعارةُ الإِفراغ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا أفرغ علينا صبراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 250‏]‏ ونظير الصب قولهم‏:‏ شن عليهم الغارةَ‏.‏

وكان العذاب الذي أصاب هؤلاء عذاباً مفاجئاً قاضياً‏.‏

فأما عاد فرأوا عارض الريح فحسبوه عارض مطر فما لبثوا حتى أطارتهم الريح كل مطير‏.‏

وأما ثمود فقد أخذتهم الصيحة‏.‏

وأما فرعون فحسبوا البحر منحسراً فما راعهم إلا وقد أحاط بهم‏.‏

والسوط‏:‏ آلة ضرب تتخذ من جلود مضفورة تضرب بها الخيل للتأديب ولتحمِلَها على المزيد في الجري‏.‏

وعن الفراء أن كلمة ‏{‏سوط عذاب‏}‏ يقولها العرب لكل عذاب يدخل فيه السوط ‏(‏أي يقع بالسوط‏)‏، يُريد أن حقيقتها كذلك ولا يريد أنها في هذه الآية كذلك‏.‏

وإضافة ‏{‏سوط‏}‏ إلى ‏{‏عذاب‏}‏ من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي صب عليهم عذاباً سوطاً، أي كالسوط في سرعة الإِصابة فهو تشبيه بليغ‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ تذييل وتعليل لإِصابتهم بسوط عذاب إذا قُدِّر جواب القسم محذوفاً‏.‏ ويجوز أن تكون جواب القَسَم كما تقدم آنفاً‏.‏

فعلى كون الجملة تذييلاً تكون تعليلاً لجملة ‏{‏فصب عليهم ربك سوط عذاب‏}‏ تثبيتاً للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله ينصر رسله وتصريحاً للمعاندين بما عَرَّض لهم به من توقع معاملته إياهم بمثل ما عامل به المكذبين الأولين‏.‏ أي أن الله بالمرصاد لكل طاغ مفسد‏.‏

وعلى كونها جواب القسم تكون كناية عن تسليط العذاب على المشركين إذ لا يراد من الرصد إلا دفع المعتدي من عدوّ ونحوه، وهو المقسم عليه وما قبله اعتراضاً تفنناً في نظم الكلام إذْ قُدم على المقصود بالقسم ما هو استدلال عليه وتنظير بما سبق من عقاب أمثالهم من الأمم من قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بعاد‏}‏ الخ، وهو أسلوب من أساليب الخطابة إذّ يُجعل البيان والتنظير بمنزلة المقدمة ويجعل الغرض المقصود بمنزلة النتيجة والعلةِ إذا كان الكلام صالحاً للاعتبارين مع قصد الاهتمام بالمقدَّم والمبادرة به‏.‏

والعدول عن ضمير المتكلم أو اسم الجلالة إلى ‏{‏ربك‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فصب عليهم ربك سوط عذاب‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ إيماء إلى أن فاعل ذلك رَبه الذي شأنه أن ينتصر له، فهو مُؤمّل بأن يعذب الذين كذبوه انتصاراً له انتصارَ المولى لوليّه‏.‏

والمرصاد‏:‏ المكان الذي يَترقب فيه الرَّصد، أي الجماعة المراقبون شيئاً، وصيغةُ مفعال تأتي للمكان وللزمان كما تأتي للآلة، فمعنى الآلة هنا غير محتمل، فهو هنا إما للزمان أو المكان إذ الرصد الترقب‏.‏

وتعريف «المرصاد» تعريف الجنس وهو يفيد عموم المتعلِّق، أي بالمرصاد لكل فاعل، فهو تمثيل لعموممِ علم الله تعالى بما يكون من أعمال العباد وحركاتهم، بحال اطلاع الرصَد على تحركات العدُوّ والمغيرين، وهذا المثلُ كناية عن مجازاة كل عامل بما عمِله وما يعمله إذ لا يقصد الرصد إلا للجزاءِ على العدوان، وفي ما يفيده من التعليل إيماء إلى أن الله لم يظلمهم فيما أصابهم به‏.‏

والباء في قوله ‏{‏بالمرصاد‏}‏ للظرفية‏.‏